السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنّ اللغة العربيّة تفخر على كلّ اللغات بمزايا كثيرة ليستْ في غيرها ، منها :
أنهّا الأطول عمراً حيث تكفّل الله تعالى بحفظها حين تكفّل بحفظ كتابه الذي نزل بلسانٍ عربيًّ مبين : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، وأنهّا الأغزر مادةً حيث تزيد موادّها على مئة ألف سوى المشتقّات ، وأنّها الأبلغ في مراعاة مقتضى الحال ، ولذلك تفرّدتْ بكثرة القواعد النحويّة والصرفيّة والبلاغيّة التي يستطيع بها الموهوب أن يملك ناصية البيان ، ومع ذلك تمتاز بالسهولة ؛ فهي بحرٌ له عمقٌ ، وله سطحٌ ، وعلى قدر همّة الغوّاص يحصل على الدرر ، وإذا كانت العربّية بحراً فإنّ القرآنَ أنْفَسُها درراً ولؤلؤاً ، ولكنّ الحصول على جواهره يحتاج إلى غواصٍ ماهرٍ ، عدّتُهُ التدبُّرُ العميقُ لآياته وسوره .
وإن لبلوغ منـزلة المتدبرين للقرآن الكريم وللوقوف على مدى بلاغته وإعجازه ثلاثةَ أركان :
الأوّل : فهم علوم اللغة .
والثاني : الإخلاص .
والثالث : الذوق السليم . وسأكتفي بإيراد أقوال لبعض العلماء الأعلام في هذه الأركان :
الركن الأوّل : فهم علوم اللغة :
وأقصد بعلوم اللغة نحوَها وصرفَها وبلاغتَها ودلالاتِ ألفاظها ؛ فإنّ فهم أسرار اللغة العربية ، ومنها القرآن الكريم ، يحتاج إلى الاطلاع على كلّ علومها مجتمعة ؛ لأنّها حلقةٌ متّصلةٌ ، يأخذ بعضها برقاب بعضٍ ، قال شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه الله -: " لابدَّ في تفسير القرآن والحديث من أن يَعْرِفَ ما يدلّ على مراد الله ورسوله صلى الله علية وسلم من الألفاظ ، وكيف يفهم كلامه ؛ فمعرفة العربيّة التي خوُطبنا بها ممّا يعينُ على أن نفقه مرادَ الله ورسوله بكلامه ، وكذلك معرفةُ دلالة الألفاظ على المعاني ؛ فإنّ عامّة ضلال أقل البدع كان بهذا السبب ؛ فإنّهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدّعون أنه دالٌ عليه ، ولا يكون الأمرُ كذلك " .
والثمرة العظمى لهذا الفهم هو التدبّر الذي نُدِبَ المرءُ إليه ؛ ليؤديَ به ذلك إلى الإيمان بالله مُنْزِِلِ هذا الكتاب ، وإلىَ تعظيم القرآن وَمَنْ أوحاه ، وَمَنْ بَلَّغَهُ ، وهذه كلّها لا تتأتّى إلا لمن عَرَفَ لغته ، وأدرك أسرارها ، قال ابن النقيب – رحمه الله - :
" إنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عَرَفَ كلام العرب ، فَعَرَفَ علم اللغة ، وعلم العربيّة ، وعلم البيان ... فإذا علم ذلك ، ونظر في هذا الكتاب العزيز ، ورأى ما أودعه الله – سبحانه – فيه من البلاغة والفصاحة وفنون البيان ، فقد أوتي فيه العجبَ العجابَ ، والقولَ الفصلَ اللبابَ ، والبلاغةَ الناصعةَ التي تحيّر الألبابَ ، وتُغلقُ دونها الأبوابُ ... ولذلك يقع في النفوس عند تلاوته وسماعه من الروعة ما يملأ القلوبَ هيبةً ، والنفوسَ خشيةً ، وتستلذّه الأسماعُ ، وتميل إليه بالحنين الطباعُ ، سواءً كانت فاهمةً لمعانيه ، أو غير فاهمةٍ ، عالمةً بما يحتويه ، أو غيرَ عالمة ، كافرةً بما جاء به ، أو مؤمنةً " .
الركن الثاني : التقوى والإخلاص والتجرّد :
فالقرآن العظيم نور الله ، وفهمه يحتاج إلى نورٍ منه {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } ( النور :40) ، قال الزركشيّ – رحمه الله - : " اعلم ْ أنّه لا يحصلُ للناظرِ فهمُ معاني الوحي حقيقةً ، ولا تظهرُ له أسرارُ العلم من غيبِ المعرفة ، وفي قلبهِ بدعةٌ، أو إصرارٌ على ذَنْبٍ ، أو في قلبه كِبْرٌ ، أو هوى ، أو حُبُّ دنياَ ، أو يكونُ غيرَ متحقّقِ الإيمانِ ، أو ضعيفَ التحقيقِ ، أو معتمداً على قول مفسِّرٍ ليس عنده إلا علمٌ بظاهرٍ ، أو يكونُ راجعاً على معقولِهِ ، وهذه كلَُّها حُجُبٌ وموانعُ ، وبعضُها آكَدُ من بعضٍ ، (فـ) إذا كان الَعَبدُ مصْغياً إلى كلامِ ربَّهِ ، ملقيَ السمعِ، وهو شهيدٌ ، لمعاني صفات مخاطِبهِ ، ناظراً إلى قدرته ، تاركاً للمعهود من علمه ومعقوله ، متبرّئَاً من حوله وقوّته ، معظّماً للمتكلَّمِ ، مفتقراً إلى غيبِ الجوابِ بدعاء وتضرّعٍ ، وابتئاسٍ وتمسكنٍ ، وانتظارٍ للفتحِ عليه من عند الفتّاحِ العليمِ ، وليستعنْ على ذلك بأن تكون تلاوتُهُ على معاني الكلام وشهادة وصفِ المتكلّم من الوعد بالتشويق والوعيد بالتخويف والإنذار بالشديد ، فهذا القارئ أحسنُ الناس صوتاً بالقرآن ، وفي مثل هذا قال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } ( البقرة) ، وهذا هو الراسخ في العلم ، جعلنا الله من هذا الصنف } واللهُ يَقُولُ الحقَّ وَهُوَ يَهدي السبيل { (الأحزاب).
الركن الثالث : الذوق اللغويّ السليم :
إنّ قراءة القرآن الكريم ، ولو توافر معها التقوى والإخلاص ومعرفة العربيّة ، لا تستلزم القدرة على الوقوف على جمال الأسلوب وبلاغة كلام العرب ؛ لأنّ ذلك يحتاج أيضاً إلى ذوق سليمٍ ، وكذلك إدراك مواطن الإعجاز اللغويّ في القرآن الكريم يتطلّبُ وجود مَلَكَةِ الذوق القادرِ على تمييز الفروق بين المشتبهات وأسرارها ، وعلى مواطن الفصاحة والبلاغة وإجراء الكلام على النسق الرائع ، قال ابن أبي الحديد : " اعلمْ أنّ معرفة الفصيح والأفصح ، والرشيق والأرشق ، والجليّ والأجلى ، والعليّ والأعلى من الكلام أمرٌ لا يُدْرَكُ إلا بالذوق ، ولا يمكن إقامةُ الدلالةِ المنطقيّة عليه ، وهو بمنـزلة جاريتين : إحداهما بيضاءُ مُشْرَبَةٌ حُمْرَةً ، دقيقةُ الشفتين ، نقيّة الشَّعْرِ ، كحلاءُ العينِ، أسيلةُ الخدَّ : دقيقةُ الأنفِ ، معتدلةُ القامة .
والأخرى دونها في الصفات والمحاسن ، لكنّها أحلى في العيون والقلوب منها ، وأليقُ وأملحُ ، ولا يُدْرى لأيَّ سببٍ كان ذلك ، لكنّه بالذوق والمشاهدة يُعْرَفُ ، ولا يمكن تعليله .
وهكذا الكلامُ ، نعمْ يبقى الفرقُ بين الوصفين أنّ حُسْنَ الوجوهِ وملاحتَها ، وتفضيلَ بعضِها على بعضٍ يدركه كلُّ مَنْ له عينٌ صحيحةٌ ، وأمّا الكلامُ فلا يعرفه إلا بالذوق ، وليس كلُّ مَنِ اشتغلَ بالنحو أو باللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق ، ومّمن يصلح لانتقاد الكلام .
وإنّما أهلُ الذوق هم الذين اشتغلوا بعلمِ البيان ، وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر ، وصارتْ لهم بذلك دُرْبَةٌ ومَلَكَةٌ تامّةٌ ، فإلى أولئك ينبغي أن يُرْجَعَ في معرفةِ الكلام ، وفضلِ بعضِهِ على بعضٍ " .
ولا شكَّ في أنّ سائلاً سيقول : ولكنْ أيكون الذوقُ فطريّاً أم مكتسباً ؟ ، فأقول : إنّ الذوق في الأصل ملكةٌ فطريّةٌ ، لكنّ الاكتساب فيه هو المعتَمَدُ ، ولذلك قال الزمخشريّ عن تدبّر كتاب الله : " إنّ أملأ العلوم بما يغمر القرائح ، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح ، من غرائبِ نكتٍ يلطفُ مسلكها ، ومستودعاتِ أسرارٍ يدقُّ سلكها ، علمُ التفسير الذي لا يتم ُّ لتعاطيه وإجابة النظر فيه كلّ ذي علمٍ ، كما ذكر الجاحظ في كتاب ( نظم القرآن ) ؛ فالفقيه وإنْ برّز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام ، والمتكلّم وإن بَزَّ أهلَ الدنيا في صناعة الكلام ، وحافظُ القصصِ والأخبارِ وإنْ كان من ابن القرَّيَّة أحفظَ ، والواعظُ وإن كان من الحسن البصريّ أوعظَ ، والنحويُّ وإنْ كان أنحى من سيبويه ، واللغويُّ وإن عَلَكَ اللغاتِ بقوّةِ لحييه ، لا يتصدّى منهم أحدٌ لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوصُ على شيء من تلك الحقائق إلا رجلٌ قد برع في علمين مختصّين بالقرآن ، وهما علم المعاني والبيان ، وتمهّل في ارتيادهما آونةً ، وتَعِبَ في التنقير عنهما أزمنةً ، وبعثته على تتبّع مظانّهما همّةٌ في معرفة لطائف حجّة الله ، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله ، بعد أن يكون آخذاً من سائر العلوم بحظٍّ ، جامعاً بين أمرين : تحقيق وحفظ ، كثيرَ المطالعاتِ ، طويلَ المراجعاتِ ، قد رَجَعَ زماناً ، وَرُجِعَ إليه ، وَرَدَّ ، وَرُدَّ عليه ، فارساً في علم الإعراب ، مقدّماً في حملة الكتاب ، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها ، مشتعل القريحة وقّادها ، يقظان النفس دراكاً للمحة ، وإن لَطُفَ شأنها ، منتبهاً على الزَمرَة ، وإنْ خفي مكانها ، لا كَزّاً جاسياً ، ولا غليظاً جافياً ، متصرّفاً ذا دربهٍ بأساليب النظم والنثر ، مرتاضاً غير ريّض بتلقيح بناتِ الفكر ، قد علم كيف يُرَتَّبُ الكلامُ ، ويُؤَلَّفُ ، وكيف يُنْظَمُ ، ويُرْصَفُ ، طالما دُفِعَ إلى مضايقه ، ووقع في مضاحضه ومزالقه "
واخــيرا اخواتي يجب ان تعلمن انني نقلت مادة هذا الموضوع من موقع دعوة لافادتكن فايسال الله ان ينفع بما نقلت واتمنى ان لا تنسونا من خالص دعواتكن غالياتي
بالتوفـــــــــــــــيق للجميع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته